الجمعة، 27 سبتمبر 2013

أدب الغابة والصحراء.. السودان هوية مشروخة


 
رانيـا مأمون

هل كانت حركة الغابة والصحراء تستقرئ ما سيؤول إليه واقع السودان من قبل نحو خمسين عاماً، لذا أطلقت التسمية كوعاء حاوٍ لفكرها ودعوتها إلى التعدُّد الإثني والثقافي والديني واللغوي؟. من واقع الحال الآن، يمكن استكناه الإجابة: فحركة الغابة والصحراء ليست حركةً فكريةً إبداعيةً فقط بل رؤيوية أيضاً، وهي تستبطن بُعداً سياسياً عميقاً، وتقدِّم نموذجاً لثقافة دولة «هجينة». فقد تكوّنت في ستينيات القرن الماضي من قِبل مجموعة من الشعراء هم: النور عثمان أبكر، محمد المكي إبراهيم، محمد عبد الحي، ويوسف عيدابي. فهمت الحركة الحالة الوجودية للإنسان السوداني، وقالت إن الهوية السودانية هي مزيجٌ من العنصرين الإفريقي والعربي، وبالتالي فثقافتهما هي مزيج أيضاً من الثقافة العربية الإسلامية والإفريقية المسيحية والوثنية. وقد أفرز هذا المفهوم الكثير من الأعمال الإبداعية التي تتماشى معه وتمثله. فالغابة ترمز للزنوجة، أما الصحراء فترمز للعروبة. ويتميّز الإبداع السُّوداني بأنه نتاجٌ لهذا التنوّع ما خلق له ثراءً وغنىً. فهل أدّى هذا الثراء إلى وحدة سودانية اجتماعياً وسياسياً؟ أم كان مدخلاً وباعثاً على الاستعلاء والرفض، والتهميش والإقصاء ومن ثَمَّ قاد إلى الحروب والتشظي والانقسام؟
لا شكَّ في أن للاستعلاء العرقي والثقافي للشمال على الجنوب، دوراً أساسيّاً في الدفع بالجنوبيين إلى حمل السلاح، بعد المطالبة بالعدالة والمساواة،فــ «غياب المساواة والعدالة سيقود حتماً إلى الحروب وتصاعد المطالبة بحق تقرير المصير، وعلى كل أمة أو مجموعة عرقية تقوم باضطهاد المجموعات العرقية الأخرى وترفض أن تعيش معها على أساس المساواة والعدالة المكتسبة، من حقِّ المواطنة على أرض واحدة أن تستعد لمواجهة قضايا جادة، مثل حق تقرير المصير بنفس الجدية التي رفضت بها تلك المجموعات كمجموعات عرقية مساوية لها في الحقوق والواجبات1»
لم يأتِ حمل السلاح من قِبل الجنوبيين بين عشية وضحاها، بل سبقته كثير من الأحقاد، «اتفقت جميع السياسات الحكومية المركزية المتواترة على معاملة الجنوبيين كأمّة منفصلة ومتميزة عن الشمال. فلم تعمل هذه الحكومات على تحقيق سياسة وطنية تستوعب الجنوبيين في الحياة العامة في السودان،وتعمل على إزالة الفوارق التي تظلل تلك الحياة العامة، لذا ظل الجنوب في وضع أشبه بالغريب لا هو بالمنفصل ولا هو جزء من السودان(2)». لقد مورست ضد الجنوب سياسة تمييز عرقية وثقافية ودينية ولغوية، قادت في نهاية المطاف إلى الحرب الأهلية بين عامي (1955 - 1972)، ثم اندلعت مرة أخرى (1983 - 2005). ومن بعدها انفصل جنوب السودان عن شماله بموجب استفتاء على الانفصال تحت ظل الحكومة الحالية (1989)، التي حوَّلت الحرب من أجل رفع الظلم التاريخي والسياسي وتحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية والتنموية، إلى حربٍ دينية جهاديةٍ بين مسلم ومسيحي، وبذلك ضمنت لها المباركة من قِبل الشعب وشبابه الذين ذهبوا للجهاد في الجنوب، الذي كان ضمن حدود السودان، أي ذهبوا للجهاد ضد جزء من الوطن وشعبه!! هذا بدلاً من تصحيح الأخطاء التاريخية التي ورثتها هذه الحكومة الشمولية عن الحكومات الوطنية السابقة كلها. وبالطبع لن أنفي دور الاستعمارين العثماني والإنجليزي في بذر بذرة الحرب، ليأتي الشماليون العرب لسقايتها حتى نَمتْ وتفرعتْ وأدَّت إلى انقسام الوطن الواحد!.
كانت تجارة الرقيق التي مارسها الشمال على الجنوب من أكبر روافد الحقد في قلوب الجنوبيين، وأبرز تجليات الاستعلاء العرقي للشماليين على الجنوبيين، فقد «لعبت تجارة الرقيق دوراً كبيراً في تقسيم وجدان هذا الشعب وفي تحديد نظرة كل مجموعة تجاه الأخرى. فمنذ بدايات العهد العثماني في السودان 1821 ظل الشماليون ينظرون إلى الجنوبيين على أنهم رقيق أو«عبيد» (3)ورغم أننا نعيش الآن في القرن الواحد والعشرين، فإن أثر تلك التجارة مازال موجوداً: «لقد توقفت تجارة الرقيق ولكن ما تزال في الواقع تلقي بنفوذها وتشكِّل طرائقنا العرقية والإقليمية والعنصرية، إنها مرتبطة بذهن الجنوبي والشمالي منذ ذلك التاريخ(4)»، و«إن نصف قرن من الحكم الثنائي الإنجليزي المصري لم ينجح لسوء الحظ في إزالة الأثر الذي خلّفته تجارة الرقيق في الشماليين والجنوبيين على حد سواء، حيث ظل الأُول يعتقدون أنهم يولدون سادة، بينما أحاط الآخرون أنفسهم بسياج من الريب والظنون والذي برهنت الأيام أنه أُسس بإحكام(»5
وهذه الندبة في الوجدان الجنوبي تطرَّق إليها فرانسيس دينق في روايته (طائر الشؤم)، من خلال سرده لبوادر الحرب الأهلية قبل الاستقلال عن الاستعمار البريطاني مباشرة، حين شعر الجنوبيون أن الشماليين سيعودون إلى غزوهم مجدداً إثر انسحاب البريطانيين واستلامهم مقاليد تصريف البلاد، ما يحيل إلى أن الجنوبيين كانوا يستظلون بمظلة البريطانيين ويأمنون جانبهم أكثر من الشماليين، فثاروا وقتلوا الشماليين المتواجدين في الجنوب «وأشعل القتال روح العداء العرقي والثقافي وبدأ في فتح جروح قديمة وإنعاش الحروب القبلية بين العرب والدينكا»، «في تلك المصادمات عاودت القبائل العربية ممارستها القديمة في الغزو لأخذ الأبقار والرقيق(6)». وإن أقررنا بأن تجارة الرقيق بدأت في العهد العثماني، إلا أن استعانة الجيوش الغازية ببعض الشماليين تشير إلى استعداد فطري للمشاركة في تجارة الرقيق، التي مارسها في ما بعد الشماليون بشكل صريح ومنفرد وأشهرهم الزبير رحمة باشا وكان هناك تاجر مصري أسواني اسمه محمد أحمد العقاد(7.
لا بدّ، من أجل تتبع أثر الأسباب التي أدَّت إلى الحرب الأهلية في السودان، من الوقوف أيضاً عند سؤال كبير هو سؤال الهويَّة السودانيَّة. إذ إنَّ التباين والتعدُّد، كانا يمثلان أيقونة الأمل في إثراء الواقع الثقافي والاجتماعي، لكن إخفاقات السّاسة وقفت بقسوةٍ كحاجزٍ ضدّ المضي قدماً باتجاه التنوع. فقد كانت الرغبة مشتركةً في تحسُّس الجذور والبحث عن ثمار الإجابة عن سؤال الهوية، ففي وقتٍ واحد تقريباً بدأ النور عثمان أبكر (مواليد كسلا في شرق السودان) ومحمد المكي إبراهيم، (غرب السودان) وصلاح أحمد إبراهيم (الوسط)، ومصطفى سند (أمدرمان) ومحمد عبد الحي (الخرطوم) يكتبون شعراً تظهرُ فيه تلك الملامح المشتركة التي لا تخفي الاختلاف العميق.
شدَّد النَّور عثمان أبكر، على التغلغل الإفريقي ومضى في أكثر من اتجاه مؤكداً أنه: «حتى صوفية السودان لا تنبع من أوتار شرقية، ذلك لأنها عطاء رخيم للطبل والبوق»، إلا أنه لم ينفِ قبول العديد من المظاهر الإسلامية. ورغم ذلك جاءت أشعاره عامرة بالمناخ الإفريقي وطقوسه: في غرفات الغاب السِّرية/أوقدنا ألف سراج قربنا/للربِّ ضحايا النذر الأزلي/شربنا الخمر وغنين/ احجب عنَّا الريح السوداء.
التفت الشاعر محمد عبد الحي من جهة أخرى، خاصةً في مطولته (العودة إلى سنار) - سنار ترمز إلى السلطنة الزرقاء (1504 - 1821)، ويطلق السودانيون على الأسود أزرق ربما لهذا سُميت الزرقاء وتعني السوداء- أيضاً إلى تحسُّس الجذور، وقد قدّم لقصيدته بمدخل لأحد المتصوفة (العرب) القدامى: «ما الذي أخرجك يا أبا يزيد عن بسطام؟/قال: طلب الحقّ./ إن الذي تطلبه قد تركته وراء ظهرك ببسطام./ فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ففُتح له!/ فافتحوا، حُراس سنار افتحوا للعائِد الليلة أبواب المدينة/افتحوا للعائد أبواب المدينة/افتحوا الليلة أبواب المدينة/بدوي أنت؟/لا../ من بلاد الزنج/لا../أنا منكم، تائه عاد يغني بلسانٍ/ويصلي بلسان/أنا منكم جرحكم جرحي/وقوسي قوسكم/وثني مجَّد الأرض وصوفي ضرير/مجَّد الرؤيا ونيران الإله
أمّا الشاعر صلاح أحمد إبراهيم فقد وقف ضدّ حركة الغابة والصحراء في بواكيرها بمقالٍ له بعنوان (نحن عرب العُرب- صحيفة الصحافة 1967/11/6)، وكانت الحرب سجالاً بينه وبين الشاعر النور عثمان أبكر. حتّى أن بعض أدباء السودان ذهب للتأكيد على أن لهجة السودانيين عربية صافية ومستمدة من نهر الفصحى مباشرة، بل أن الشاعر الطيب السراج صاغ شعراً يستعصي على الفهم: «لغة المحاجيج المراجيح الوحاويح/المصابيح السماه جدودا/أعني المزاربة الملاوتة الخلامجة/ الخضارمة الأباة الصيدا»، حتّى إن شاعراً كبيراً هو محمد المكي إبراهيم علّق قائلاَ: «الشاعر كان يستعرض ثروته اللغوية بإحساسٍ متهم». أمّا محمد المكي الذي كان متورطاً في البحث عن إجابة، فقال في قصيدته (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنتِ): «الله يا خلاسية/ يا بعض عربية/وبعض زنجية/وبعض أقوالي أمام الله«
وقد برز هذا السؤال الملِّح بشكلٍ واضح في ستينيات القرن الماضي، ففي رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح (1929 - 2009): «سألت إيزابيلا سيمور مصطفى سعيد هل أنت إفريقي أم آسيوي؟ فأجابها أنا مثل عطيل، عربي إفريقي. فنظرتْ إلى وجهه وقالت: نعم، أنفك مثل أنوف العرب في الصور، ولكن شعرك ليس فاحماً مثل شعر العرب».يتفاوت الكُتَّاب في رؤاهم تجاه هذا السؤال، إذ بذل الفيتوري، خاصة في دواوينه الأولى، كل طاقته للتغني بإفريقيا بشكلٍ يشبه الطيب السراج في الضفة الأخرى: «قلها لا تجبن لا تجبن/ قلها في وجه البشرية/أنا زنجي/وأبي زنجي الجدّ/وأمي زنجية/أنا أسود/أسود لكن حرٌ أمتلك الحرية»10.
غير أن جمال محمد أحمد أخلص للكتابة لإفريقيا دونما ضوضاء، رغم أنه من سرة شرق في أقاصي الشمال، فكتب (وجدان إفريقيا)، وهو كتاب يبيِّن قدرة الدينين المسيحي/الإسلامي على التعايش. كما نقل بعض الحكايات والأحاجي الإفريقية (سالي فوحمر)، وكتب عن )مطالعات في الشؤون الإفريقية(
 
 مرآة السرد
أمّا السرد فقد كان أكثر مباشرةً في معالجة الحرب من منظورٍ إبداعي، سواء أكان ذلك عن الحرب أم عن إفرازاتها وما أدَّت إليه.
تصوّر رواية (آخر أيام شاب جنوبي) لـ أمير صالح جبريل، آخر ثلاثة أيام من حياة شاب جنوبي نزح أبواه من الجنوب إلى العاصمة الخرطوم بسبب الحرب، وفيها صنعا الخمر البلدي وتاجرا به. ثم توفي أبوه لتعيله أمه التي أُدخلت السجن بسبب جريمة قتل حدثت في منزلها. ويكون مصير الطفل بعد ذلك التشرُّد والضياع، وامتهان السرقة، وإدمان الحشيش (البنقو) إلى أن يتم اغتياله في غرفته.
تعكس الرواية الحياة النمطية التي يعيشها الجنوبيون النازحون إلى الخرطوم أو معظم مدن الشمال: صناعة الخمر وبيعه، والفقر، والسكن العشوائي، والعنف الذي يؤدي إلى القتل، والسرقة، والتشرد، والتفكك الأسري وخلاف هذا الكثير:
«أخذ سندوتش الطعمية وهو يبتسم، صوت ديمس روزس مخلوط بالموسيقى يغني: إني أبحر.. إني أبحر. تأمله صاحب الكافتيريا وهو يجلس خلف درج البيع. هزَّ رأسه حتى كادت تسقط عمامته. ابتسم بسخرية فاهتزت كرشه داخل الجلباب الأبيض، وأخذ ينظر إلى هذا الزنجي النحيل وكيف يهز رأسه ذا الشعر المفلفل طرباً ويردِّد كلمات الأغنية الأجنبية بنشوةٍ. وهذه الزنجية المثيرة التي تلتصق به في غير حياء. يا لهما من جنوبيين غبيين(11) «.
يختزل الكاتب في صاحب الكافتيريا الذي يهز رأسه سخرية ويمتعض من هذين الجنوبيين، صورة الآخر المختلف، الشمالي صاحب العمامة والجلباب الأبيض، وهو اللباس التقليدي لشماليي السودان وبعض القبائل الأخرى. إشارته للشَّعر (المفلفل) أي الخشن تحيل إلى النظرة العرقية، واستهجانه أن يطرب لكلمات أغنية أجنبية وهو الزنجي الغبي كما يتصوّره. هذه التَّصورات هي انعكاس للتصورات في ذهنية الشمالي تجاه الجنوبي بشكل عام.
هل الجنوبي يشعر بأنه مستباح ربما لذلك يتلبَّس العنف ردود أفعاله؟ مستباحٌ على المستوى الرسمي والمجتمعي، فالشعار المرفوع هنا «بيتك للكل، لأن الكل في بيتك، لأن الكلّ في الشارع والشارع من تراب»(12). والمقصود بـ «هنا» معسكر النازحين في الخرطوم. لكن الكل ليس فقط هم أفراد المعسكر، بل الكل الشامل، الدولة التي ترسل عرباتها في حملات منظمة لحشر أفراد ذاك المعسكر في عربات الشرطة زاجةً بهم في الزنازين، والمجتمع الرافض له، وحتى الطبيعة تستبيحه عندما تثور عليه وتقتلع مسكنه فيصنع الصغار سقفاً من مشمع لتغطية والدهما من المطر والرياح ويظل الصغار عرايا في مواجهة المطر والبرد والرياح. فقد صوّرت القاصة ستيلا قايتانو هذه الحياة البائسة ببراعة كبيرة في قصتها (كل شيء هنا يغلي.. نحو الموت والسجون).
ارتعاشات الأمل في وجدان الجنوبي تجعله يركض دوماً تجاه السلام، وتجاه العدل، يهرب من مصير قاتمٍ خلفه لمصيرٍ مجهول. فهو يغادر الجنوب والحرب في رحلة بحث يحف بها الحلم الوضيء: «مطارد أنت. لاهث في طلب النجاة. اركض فهذا قدرك. لا تجعل المسافة بينك وبينهم تضيق، فالبراحات دائماً مدخلها الركض13«
وارتعشات الحلم والطموح والتطلع للتغيير هي ما جعلت الياس، بطل رواية (طائر الشؤم) لفرانسيس دينق، يزحف نحو الشمال، تدفعه الرغبة في التعلُّم وتقلُّد مناصب تحقّق الفائدة لقومه وعشيرته وتكسبه احترامهم. هذه الرواية وجدت شهرة، لا بسبب أنها باهرة في فنيتها وتقنياتها الكتابية وعوالم التخييل فيها، بل لأنها عملت على تتبع فترة من تاريخ السودان خاصةً إبان حكم جعفر نميري (مايو/أيار 1969 - إبريل/نيسان 1985) وقبله حكم الفريق إبراهيم عبود (1958 - 1964).
نلمس في رحلة الياس الحياتية داخل الرواية، تقاطع العلاقة بين العربي والجنوبي في كلّ الفصول تقريباً، حتى في الفصول التي تتحدث عن البيئة في الجنوب وعن الطقوس والصلوات. إلا أنَّ ظلال هذه العلاقة جلية، وتبدو بعض الأحداث والمصائر نتيجةً لهذه العلاقة. هي علاقة شدّ وجذبٍ، كما لو أنّ فرانسيس دينق أراد أن يقول: لا فكاك. بل إنه اعتمد هذا المبدأ كحيلةٍ فنيةٍ في نهاية الرواية، خاصةً وهو يدين هذا العربي في كل الرواية وكل الأحداث، ثم يجعل من الياس عربيّ الأب وزنجيّ الأم. ومن بركة أخيه زنجيّ الدمّ من جانب الأم والأب. وبركة هو أخو حبيبته فضيلة، وأخوه في الوقت نفسه، هو الأخ الضائع! فقد بُنيت هذه الجزئية بشيءٍ من الركاكة وإقحام للمبدأ الذي افترضتُه، وهو مبدأ لا فكاك. فهل كان من الضروري أن يكون الياس عربيّ الدم من جهة الأب؟ هل خدم هذا النص والفكرة؟ أم هل انتصر للشمال على الجنوب، بتصوير الياس حلَّال العقد والمشاكل والحكيم والنبيل والصادق والمثالي؟ وفي الضفة الأخرى تجد بركة المسلم المتشدِّد المنحدر من أصول وثنية، المعتز بدمه العربي، وفي الأصل هو ليس كذلك!
وتكشف الرواية جانباً آخر، أن الجنوبيين أنفسهم يمارسون عنصرية على بعضهم، فالدينكاوي أنقى دماً وأعلى درجةً في السُّلم الاجتماعي من غيره من القبائل  «لقد ولدتُ وترعرعتُ في قوم يعتبرون أن جنسهم وثقافتهم هي النموذج الإلهي لبني الإنسان وكذلك ينبغي أن تكون تقاليدهم الأخلاقية. إلا أن الفرق الوحيد هو أنهم لم يَمْلوا ذلك الرأي في أنفسهم وعن العالم على الآخرين. هم فقط يعتبرون أنفسهم خواص ومتفوقين، ولا يريدون أن يغيروا الآخرين ليكونوا مثلهم. إن الآخرين ليسوا بدينكا ولا يمكنهم أن يصيروا من الدينكا« 14.
وربما هذه الصورة الذاتية هي سبب بعض المناوشات المسلحة التي تحدث من فترة وأخرى بين قبائل الجنوب. قياساً على هذه الصورة ما الفرق بين الدينكاوي في الجنوب والعربي في الشمال، إن كان كلّ واحد يرى أنه المتفوِّق؟ أليس من المحتمل أن تتسبب هذه الشوفينية بحربٍ أهلية أخرى في الجنوب بين القبائل الجنوبية ذاتها؟ وتبعاً لهذا السؤال نجد أن التعدُّد العرقي حتى في الجنوب يؤدي إلى نزاع مسلح بدلاً عن ثراء وغناء ثقافي واجتماعي.
لقد كُتبت رواية فرانسيس دينق هذه ومعظم كتابات الأدباء والمفكرين الجنوبيين باللغة الإنجليزية، ومنهم: أغنيس لاكودو، وتعبان ليو لينق، وجونثان ميانق، وفرانسيس فيلب وأبيل ألير وغيرهم. نحن نعرف أن الإنسان يستطيع التعبير في لغته الأمّ بشكل أفضل، فهل اعتبر الجنوبيون اللغة الإنجليزية هي لغتهم الأم؟ ألم يساهم ذلك في توسيع الهوَّة القائمة أصلاً بين الثقافتين الشمالية العربية والجنوبية الإفريقية؟ ولا شكَّ أن هذه الكتب لم تجد انتشاراً كافياً لدى القارئ الشمالي بسبب ذلك. ثمة عدد قليل من الكتاب الجنوبيين كتبوا بالعربية وأجادوا مثل ستيلا قايتانو وآرثر قابريال ياك.
الثقافة والإبداع ينهلان من التعدُّد والاختلاف والتمايز، لكن السياسة تخشى التعدُّد والاختلاف والرأي المضاد. حاولت الثقافة والإبداع الكتابي والفني سواء أكان مسرحاً ودراما، أم غناءً وموسيقى أم تشكيلاً، رتق تصدُّع الوطن وجراحاته بسبب الحروب التي افتعلتها السياسة وغذّتها، لكن ظلَّ كل من الشمال والجنوب يحمل مآخذه على الطرف الآخر وينميها. كلّ طرف يرى أنه المحق، والنازف هو الوطن: «إني أتساءل مع أيِّ الجانبين يقف الله 15»، مع أي الطرفين هو الحقُّ؟ ويبقى الخاسر هو الوطن.
 
 هوامش:
-1  الحرب الأهلية وفرص السلام في السودان، إبراهيم علي إبراهيم المحامي، ط1 القاهرة 2002، ص 176.
-2
 نفسه، ص 177.
-3
 نفسه، ص 176.
-4
 نفسه، ص 17.
-5
 نفسه، ص 17.
-6
 طائر الشؤم- رواية، د. فرانسيس دينق، ترجمة: د.عبد الله أحمد النعيم، 2001، مركز الدراسات السودانية.
-7
 انظر كتاب جنوب السودان.. التمادي في نقض المواثيق والعهود، أبيل ألير، ترجمة: بشير محمد سعيد، ط1 1992م.
-8
 صحو الكلمات المنسية- شعر، النور عثمان أبكر، ط2 الخرطوم 1994، ص 33 .
-9
 العودة إلى سنار - شعر، محمد عبد الحي، ط2 الخرطوم 1985، ص 10.
 -10
أغاني إفريقيا شعر، محمد مفتاح الفيتوري 1955، ص 38.
 -11
آخر أيام شاب جنوبي - رواية، أمير صالح جبريل ط1 الخرطوم 2010، ص 16.
 -12
زهور ذابلة - قصص، ستيلا قايتانو ط1 الخرطوم 2005، ص 10.
 -13
السابق، ص 31.
-14
طائر الشؤم- رواية، د. فرانسيس دينق، ترجمة: د.عبد الله أحمد النعيم، 2001، ص229 مركز الدارسات السودانية.
-15
نفسه ص291.

 عن مجلة الدوحة عدد 71 سبتمبر 2013